تم النسخ!
تصعيد جيوسياسي: إثيوبيا تتهم مصر بمحاولة زعزعة استقرار القرن الأفريقي
![]() |
| التوترات بين القاهرة وأديس أبابا حول ملف سد النهضة تزداد حدة |
في تحول نوعي في الخطاب الدبلوماسي، وجهت إثيوبيا اتهاماً مباشراً وغير مسبوق إلى مصر بمحاولة زعزعة استقرار القرن الأفريقي. يأتي هذا التصعيد الأخير ليؤكد أن أزمة سد النهضة الإثيوبي قد تجاوزت مرحلة الخلافات الفنية والقانونية المتعلقة بقواعد ملء وتشغيل السد، لتدخل في مسار الصراع الجيوسياسي العلني. وفي الوقت الذي تواصل فيه أديس أبابا عمليات الملء الأحادي لخزان السد على نهر النيل الأزرق، وصلت المفاوضات الثلاثية مع السودان والقاهرة إلى طريق مسدود، مما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل الأمن المائي القومي لدولتي المصب.
ويرى الكاتب أن: هذا الاتهام الإثيوبي هو استراتيجية هجومية تم التخطيط لها بعناية، لا تهدف فقط لصد الضغوط الخارجية، بل لتغيير رواية الصراع بالكامل. من خلال تصوير مصر كطرف "معرقل للاستقرار"، تحاول أديس أبابا حشد الدعم الإقليمي والدولي لموقفها، مع استهلاك للوقت لاستكمال فرض الأمر الواقع على الأرض. إنها لعبة جيوسياسية تهدف إلى تحويل قضية المياه العابرة للحدود إلى قضية أمن إقليمي، لتشتيت الانتباه عن غياب الاتفاق القانوني الملزم.
في هذا المقال، نستعرض الجوهر الحقيقي للتوترات بين مصر وإثيوبيا، ونحلل الأهداف الكامنة وراء اتهامات زعزعة استقرار القرن الأفريقي، ونبحث في الأبعاد الجيوسياسية وتداعيات استمرار الجمود على كل عواصم المنطقة.
جوهر الاتهامات الإثيوبية: صراع بين التنمية والأمن المائي
لم تقدم أديس أبابا تفاصيل محددة أو أدلة قاطعة تدعم اتهامها لمصر بمحاولة "زعزعة استقرار القرن الأفريقي". ومع ذلك، يشير الخطاب الإثيوبي الرسمي إلى مجموعة من التحركات المصرية التي تعتبرها جزءاً من "استراتيجيات قديمة" تسعى لعرقلة مشروع سد النهضة، الذي تموله إثيوبيا بالكامل لإنتاج الطاقة الكهرومائية وتحقيق التنمية الإثيوبية.
تتمحور وجهة النظر الإثيوبية حول أن القاهرة لم تتخل بعد عن التمسك بالاتفاقيات التاريخية التي تضمن لها حصة كبيرة من مياه النيل، وهي اتفاقيات تعتبرها أديس أبابا "استعمارية" ولا تعترف بها. وفي المقابل، ترى إثيوبيا أن سد النهضة هو حق سيادي وضرورة قصوى لتنمية البلاد.
| الاستراتيجية المصرية المتهمة | التفسير الإثيوبي للتحرك |
|---|---|
| الدبلوماسية النشطة المكثفة | محاولة لتسييس قضية فنية وعرقلة المشروع التنموي في المحافل الدولية (مجلس الأمن، الاتحاد الأفريقي). |
| التحالفات الإقليمية مع دول الجوار | محاولة لتطويق إثيوبيا سياسياً وعزلها في منطقة القرن الأفريقي، مما يهدد الاستقرار. |
| التمسك بالحصص المائية التاريخية | إصرار على هيمنة تاريخية غير عادلة على موارد نهر النيل، يمنع إثيوبيا من الاستفادة من مياهها. |
الموقف المصري: الدفاع عن الأمن المائي القومي خط أحمر
![]() |
| سد النهضة الإثيوبي: إثيوبيا تتهم مصر بـزعزعة استقرار القرن الأفريقي. |
ترفض القاهرة بشكل قاطع الاتهامات الإثيوبية التي وصفتها بالادعاءات "الواهية"، مؤكدة أن تحركاتها، بما في ذلك الدبلوماسية النشطة، لا تتجاوز إطار الدفاع المشروع عن الأمن المائي القومي لشعبها. فمياه النيل هي شريان الحياة الرئيسي لمصر، وأي ضرر جسيم يصيب حصتها المائية، خاصة في سنوات الجفاف الطويلة، يمثل تهديداً وجودياً للأمن القومي المصري.
يتمثل الموقف المصري في ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم يضمن حقوق جميع الأطراف. وتتمحور المطالب المصرية الرئيسية حول ثلاثة أسس:
- أولاً: قواعد ملء وتشغيل السد: يجب أن يتضمن الاتفاق قواعد واضحة ومحددة لعمليات ملء خزان السد، خاصة خلال فترات الجفاف الممتد أو المتكرر، لضمان الحد الأدنى من تدفق المياه إلى مصر والسودان.
- ثانياً: آلية فض النزاعات: المطالبة بوجود آلية واضحة وفعالة للجوء إليها في حال نشوب خلافات مستقبلية حول تطبيق قواعد تشغيل السد.
- ثالثاً: التنسيق وتبادل البيانات: ضرورة توفير بيانات دقيقة ومحدثة من أديس أبابا حول حالة السد وكميات المياه المخزنة والمطلقة، بما يتيح لدول المصب إدارة مواردها بفاعلية والتخطيط لمواجهة أي نقص محتمل.
وهذا يشبه إلى حد كبير النزاعات الدولية حول الأنهار والمياه العابرة للحدود، مثل الخلافات على نهر الميكونغ في آسيا أو نهر كولورادو في أمريكا الشمالية. لقد أثبتت التجربة الدولية، كما وثقت المنظمات التابعة للأمم المتحدة، أن الحل الوحيد المستدام لهذه التوترات يتمثل في تطبيق مبدأ **الاستخدام المنصف والمعقول** للموارد المشتركة، وهو المبدأ الذي تصر مصر على تطبيقه، بعيداً عن سياسة الملء الأحادي وفرض الأمر الواقع.
تداعيات التصعيد على استقرار القرن الأفريقي والسودان
إن استمرار التوترات بين مصر وإثيوبيا لا يهدد فقط العلاقات الثنائية، بل يلقي بظلاله على منطقة القرن الأفريقي بأكملها، التي تعد واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة من الناحية الأمنية والسياسية.
**1. الموقف الحرج للسودان:**
يقف السودان في قلب الصراع، حيث إنه مستفيد ومتضرر في آن واحد. فمن ناحية، يساعد سد النهضة في تنظيم تدفق مياه النيل الأزرق وتقليل مخاطر فيضانات موسم الجفاف. لكن من ناحية أخرى، يتخوف السودان بشدة من تأثير التشغيل الأحادي على سدوده (مثل سد الروصيرص) وسلامتها، ويطالب أيضاً بضرورة التنسيق الإقليمي وتبادل البيانات لتفادي أي ضرر جسيم قد يلحق بأمنه المائي.
**2. سباق التحالفات وتعميق الاستقطاب:**
قد يدفع استمرار الجمود كلاً من القاهرة وأديس أبابا إلى زيادة الدبلوماسية النشطة في عواصم المنطقة وبناء تحالفات أمنية واقتصادية جديدة. هذا التنافس يمكن أن يزيد من حدة الاستقطاب الإقليمي، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني في القرن الأفريقي، وهو أمر لا يخدم الاستقرار العام في المنطقة.
**3. تشتيت جهود التنمية:**
إن انشغال الدول الثلاث (مصر، السودان، إثيوبيا) بالصراع على أزمة مياه النيل يشتت الجهود والموارد عن مواجهة تحديات إقليمية أكثر إلحاحاً، مثل الإرهاب، والجفاف المتكرر، والأزمات الاقتصادية الخانقة، مما يعرقل مساعي التنمية الإثيوبية وغيرها.
تحليل شخصي: إن النقطة المحورية في الأزمة الآن ليست في وجود السد نفسه، بل في **الإرادة السياسية** للتوصل إلى اتفاق ملزم ينظم قواعد ملء وتشغيل السد. استمرار الاتهامات المتبادلة ورفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات هو وصفة لعدم الاستقرار. لا يمكن أن يتحقق حق إثيوبيا في التنمية على حساب الأمن المائي القومي لدولتين أخريين، والحل الوحيد هو التوازن بين المطلبين.
كيفية المضي قدماً: هل هناك مخرج من المأزق؟
مع وصول المفاوضات الثلاثية إلى حالة الجمود، أصبح الضغط الدولي أو الإقليمي الفعال هو الأمل المتبقي للخروج من هذا المأزق الذي يهدد أمن المنطقة. يتطلب حل أزمة سد النهضة الإثيوبي خطوات واضحة وملموسة من جميع الأطراف:
- العودة الفورية للمفاوضات: يجب على الدول الثلاث (القاهرة، أديس أبابا، السودان) العودة للمفاوضات الثلاثية برعاية الاتحاد الأفريقي وبمشاركة مراقبين دوليين ذوي خبرة في قضايا المياه العابرة للحدود.
- التزام إثيوبي: يجب على أديس أبابا تقديم تعهدات واضحة وقانونية بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، تضمن عدم التسبب في الضرر الجسيم لمصر والسودان، خاصة في سنوات الجفاف.
- تثبيت مبدأ الاستخدام المنصف: يجب أن يتفق الجميع على أن المبدأ الحاكم هو مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لمياه نهر النيل، كما هو منصوص عليه في القانون الدولي.
- تجنب الأمر الواقع: يجب وقف جميع الإجراءات الأحادية المتعلقة بالملء الأحادي والتشغيل حتى يتم التوصل إلى اتفاق ملزم، لتهيئة بيئة إيجابية للمفاوضات.
إن هذا التصعيد، الذي تتضمن فيه توترات مصر وإثيوبيا اتهامات بـ زعزعة استقرار القرن الأفريقي، هو جرس إنذار يجب أن يدفع المجتمع الدولي للتدخل بفاعلية أكبر. مستقبل الأمن المائي لأكثر من 150 مليون نسمة يعتمد على قدرة الأطراف على التخلي عن المواقف المتشددة والعمل بروح التنسيق الإقليمي والمسؤولية المشتركة.
في الختام، يمثل الاتهام الإثيوبي لمصر منعطفاً خطيراً في أزمة سد النهضة الإثيوبي، ينقلها من مستوى الخلاف الفني إلى صراع الاتهامات السياسية المباشرة. بينما تدافع مصر عن حقها الوجودي في الأمن المائي القومي، تدافع إثيوبيا عن حقها في التنمية. إن الفجوة بين الموقفين لا تزال واسعة، والتوصل إلى حل وسط يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، وتدخلاً دولياً فاعلاً قادراً على بناء الجسور بدلاً من تعميق الانقسامات. مستقبل استقرار القرن الأفريقي يعتمد بشكل كبير على كيفية إدارة هذا الملف الحساس وتجنب سياسة الأمر الواقع في الأيام القادمة.



















